في ظل ما تشهده دولة الإمارات العربية المتحدة من اهتمام عميق بالتراث وحفظه، يبرز دور المتاحف كنافذة مفتوحة على التاريخ تعرّف الأجيال الحالية والقادمة بما عاشه الأجداد على هذه الأرض. ومن بين هذه المتاحف، يحتل متحف الشارقة للآثار مكانة مرموقة كأحد أعرق المؤسسات الثقافية التي تُوثّق تفاصيل حياة الإنسان القديم في المنطقة. اليوم، نستضيف في نقاش حر الأستاذة علياء عبيد الخيال، أمين متحف الشارقة للآثار، في حوار خاص تسلط فيه الضوء على تاريخ المتحف، وأبرز معروضاته، وأهمية دوره في تعزيز الوعي البيئي والتاريخي والثقافي.
نور الإمارات: بدايةً، حدثينا عن تاريخ متحف الشارقة للآثار. كيف بدأت قصة هذا المتحف، وما هي أهم مراحله؟
علياء عبيد الخيال: متحف الشارقة للآثار افتتح رسميًا في 5 يناير 1993، وكان نقلة نوعية في عرض الآثار المكتشفة في إمارة الشارقة، لكنه انتقل إلى مبناه الحالي في 10 مايو 1997. ومنذ ذلك الوقت، يعمل المتحف باستمرار على توسيع معروضاته وتطوير برامجه ليكون منصةً تعليمية وثقافية تحكي قصة الشارقة والإمارات، من العصور الحجرية إلى ما قبل الإسلام. ويضم المتحف أكثر من 1300 قطعة أثرية متنوعة، تشمل أدوات حجرية، أواني فخارية، أسلحة، مجوهرات، عملات، ونقوش صخرية وكتابية تم اكتشافها جميعًا في مواقع أثرية بإمارة الشارقة.
نور الإمارات: هذا رائع! وما هي أهم القطع الأثرية التي يمكن للزوار مشاهدتها في متحف الشارقة للآثار؟
علياء عبيد الخيال: لدينا مجموعة فريدة تحمل كل قطعة منها قصة مميزة، من أبرزها:
عقد اللؤلؤ الذي يُعد أقدم عقد مكتمل اكتشف في الإمارات ويعود إلى 7000 عام، وُجد في جبل البحيص ويعكس روعة الصنعة القديمة.
الحلي الذهبية من تل الأبرق، التي تعود إلى 2000 قبل الميلاد، وهي أقدم حلي ذهبية في الشارقة، ووجدت ضمن مدفن أثري.
تمثال الجمل من مويلح، والذي يعود إلى الفترة بين 900 و700 قبل الميلاد، ويعد دليلًا على استئناس الجمل منذ الألف الأول قبل الميلاد.
أكبر جرة في الإمارات، تعود للفترة من 900 إلى 700 قبل الميلاد، وتم اكتشافها أيضًا في موقع مويلح.
شاهد قبر من مليحة يعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد، ويعرض نقشًا بخط المسند الجنوبي، وهو أحد أقدم أنظمة الكتابة التي استخدمت في المنطقة.
نور الإمارات: هذا يبين مدى غنى المتحف بالمقتنيات التي تعكس فترات تاريخية مختلفة. كيف تمثلون هذه الفترات الزمنية في قاعات العرض؟
علياء عبيد الخيال: بالفعل، يضم المتحف أربع قاعات عرض مرتبة حسب التسلسل الزمني، حيث تنقل الزائر عبر العصور:
قاعة العصر الحجري: تعرض مقتنيات تعود إلى الفترة بين 125000 عام وحتى 3000 قبل الميلاد، وتعكس حياة الإنسان البدائية.
قاعة العصر البرونزي: تضم مقتنيات من الفترة 3000 قبل الميلاد إلى 1300 قبل الميلاد، وتشمل أدوات وأوانٍ برونزية.
قاعة العصر الحديدي: تعرض قطعًا أثرية من 1300 إلى 300 قبل الميلاد، مثل الأدوات والأسلحة المعدنية والنقوش.
قاعة الجزيرة العربية الكبرى: تمثل فترة ما بين 300 قبل الميلاد إلى 611 ميلادي، وتضم قطعًا تعكس التواصل والتأثر بالحضارات المجاورة.
نور الإمارات: يبدو أن المتحف يسعى إلى تقديم تجربة تعليمية مميزة للزوار. هل هناك أنشطة أو فعاليات خاصة لذلك؟
علياء عبيد الخيال: بالتأكيد، نحن نحرص على تقديم أنشطة تعليمية متنوعة تناسب مختلف الفئات. نبدأ من ورش العمل التعليمية التي تنظم للأطفال والعائلات، مثل ورش الفلج، وترميم الفخار، والنقش على الصخور، إلى جانب جولات إرشادية تفاعلية تقدم معلومات شاملة عن مقتنيات المتحف وتاريخ المنطقة. كما نستضيف معارض مؤقتة، مثل معرض "رحلة الاكتشافات"، الذي يقدم للأطفال تجربة تفاعلية في التنقيب عن الآثار، إضافة إلى المخيمات الصيفية ولمة الشتوية خلال عطلات المدارس.
نور الإمارات: وهل تسهم هذه الأنشطة في رفع الوعي البيئي لدى الزوار؟
علياء عبيد الخيال: نعم، نحرص على دمج الجانب البيئي في أنشطتنا. فمن خلال جولات المتحف، نعرض كيف تكيف الإنسان القديم في الإمارات مع البيئة بطرق تراعي التوازن البيئي. مثلًا، نوضح استخدامهم لمادة اللبن – وهي خليط من الطين والأعشاب الجافة – لبناء بيوتهم، إذ وفر لهم هذا الأسلوب مواد عازلة للحرارة والبرودة. ومن القطع المعروضة الحلي الشخصية المصنوعة من الأصداف والعظام، والتي تدل على قدرتهم على إعادة تدوير مخلفاتهم الطبيعية.
نور الإمارات: مبادرة مميزة! وأعتقد أن الحفاظ على هذه القطع الأثرية يمثل تحديًا كبيرًا، أليس كذلك؟
علياء عبيد الخيال: صحيح، فبمجرد خروج القطع الأثرية من موقعها الأثري، تبدأ عوامل التدهور بفعل الرطوبة والبكتيريا وغيرها. لهذا السبب، لدى المتحف فريق متخصص في إدارة المقتنيات، يعمل على مراقبة القطع المعروضة والمخزنة، للتأكد من حمايتها من التحلل والتآكل. كما نطبق أحدث الأساليب العلمية في توثيق القطع وترميمها وضبط درجات الحرارة والرطوبة في قاعات العرض.
نور الإمارات: وما هي خطط المتحف المستقبلية لتطويره أو توسيع معروضاته؟
علياء عبيد الخيال: لدينا خطط طموحة تشمل توسيع مجموعاتنا الأثرية بإضافة المزيد من المكتشفات من مواقع الشارقة مثل مليحة وجبل البحيص. كما نسعى إلى دمج التكنولوجيا الحديثة، مثل تقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز، لإثراء تجربة الزوار. نهدف أيضًا إلى تعزيز برامجنا التعليمية وتوسيع ورش العمل للطلاب، وتطوير المرافق بتحديث قاعات العرض وإضافة مساحات جديدة.
نور الإمارات: هذا تطور مذهل! وهل لديكم شراكات مع متاحف أو مؤسسات عالمية لتحسين تجربة الزوار؟
علياء عبيد الخيال: نعم، نحن نعمل باستمرار على تعزيز شراكاتنا مع المتاحف العالمية. يقوم فريق المتحف بزيارات دورية للمتاحف المحلية والعالمية للاطلاع على أحدث الممارسات في استقبال وإرشاد الزوار. كما ننظم للمرشدين وموظفي خدمة الزوار دورات تدريبية يقدمها مختصون في الإرشاد السياحي، لضمان تقديم أفضل تجربة ممكنة للزائرين.
نور الإمارات: ولكن، كيف يمكن للزوار المشاركة في دعم المتحف وحفظ التراث الثقافي؟
علياء عبيد الخيال: بإمكانهم ذلك من خلال نقل تجربتهم للآخرين والمشاركة في برامج المتحف ومعارضه المتجددة، وأيضًا طرح أسئلتهم واقتراحاتهم التي نرحب بها دائمًا. ويمكنهم متابعة فعاليات المتحف عبر موقع هيئة الشارقة للمتاحف ومنصات التواصل الاجتماعي لمعرفة آخر الأحداث والأنشطة، وبهذا يدعمون جهودنا في نشر الثقافة التاريخية والتراثية.
نور الإمارات: إلى جانب المعروضات الثابتة، هل ينظم متحف الشارقة للآثار معارض مؤقتة؟ وما هي الموضوعات التي يتم تناولها عادةً؟
علياء عبيد الخيال: نعم، منذ افتتاح قاعة مليحة للمعارض المؤقتة، يستضيف المتحف بانتظام معارض مؤقتة متنوعة، تركز على عدد من الموضوعات الحيوية مثل:
أحدث المكتشفات الأثرية في الشارقة والإمارات، خاصةً مع الزيادة الكبيرة في التنقيبات والاكتشافات خلال العقدين الأخيرين.
التاريخ المشترك مع دول الخليج، حيث نستضيف معارض من السعودية والكويت والبحرين وقطر وعمان، وتبرز هذه المعارض أوجه التشابه في المكتشفات الأثرية والتاريخ المشترك بين هذه الدول.
دور علماء الآثار وأهمية علم الآثار، حيث نقدم ورشًا وجولات توضح خطوات التنقيب والعمل الأثري للزوار بطريقة مبسطة وشيقة.
الدور التجاري للإمارات القديمة، التي كانت ملتقى طرق تجارية تربطها بمناطق مختلفة من العالم، مثل بلاد الرافدين وبلاد السند.
نور الإمارات: كيف يساهم متحف الشارقة للآثار في تعزيز السياحة الثقافية في الشارقة والمنطقة ككل؟
علياء عبيد الخيال: يُعتبر متحف الشارقة للآثار ركيزة مهمة في الترويج للسياحة الثقافية من عدة نواحٍ. أولًا، يجذب المتحف الزوار من داخل الإمارات وخارجها، لاسيما عشاق التاريخ والثقافة الذين يقدرون القطع الأثرية الفريدة. ثانيًا، يُبرز المتحف تراث الإمارات من خلال عروضه ومعروضاته وبرامجه التعليمية، فيكون بذلك وجهة ثقافية وتعليمية على حد سواء. كما أن المعارض الدولية، التي ننظمها بانتظام، تساهم في تعزيز الصلات الثقافية وجذب السياح المهتمين بالتراث العالمي.
نور الإمارات: هل لدى المتحف خطط أو برامج لتسهيل مشاركة الزوار في الأنشطة الثقافية والتعليمية؟
علياء عبيد الخيال: نعم، نوفر للزوار عدة طرق للمشاركة:
الحضور المباشر للفعاليات، مثل ورش العمل والجولات الإرشادية والمحاضرات التي تعلن عنها هيئة المتاحف عبر وسائل الإعلام.
التسجيل الإلكتروني، حيث يمكن للزوار متابعة موقع المتحف أو حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي للتسجيل في ورش العمل أو الجولات.
البرامج التعليمية المخصصة، مثل ورش التنقيب للأطفال وجلسات تفاعلية حول تاريخ الإمارات، ونشجع المدارس والعائلات على المشاركة في هذه البرامج.
المخيمات الصيفية والأنشطة الموسمية، التي ننظمها خصيصًا لفترة العطلات المدرسية، وتوفر للأطفال تجربة ثقافية وتعليمية ممتعة.
نور الإمارات: نعود للحديث عن مقتنيات المتحف، هل هناك قطع أثرية تحمل قصصًا خاصة أو دلالات مهمة؟
علياء عبيد الخيال: بالتأكيد، يضم المتحف قطعًا تحمل دلالات تاريخية غاية في الأهمية، منها:
رأس الفأس المكتشف في موقع الفاية، وهو دليل على الهجرة البشرية من إفريقيا إلى شبه الجزيرة العربية عبر باب المندب قبل 125000 عام.
الجرار والأواني الفخارية والحلي الذهبية، التي وُجدت في مواقع الشارقة الأثرية وتدل على الروابط التجارية القديمة التي جمعت الإمارات مع بلاد الرافدين، والبحرين، وبلاد السند، وآسيا الوسطى.
النقوش الكتابية بخط المسند الجنوبي، التي تعرض في قاعة العصر الحديدي، وهي أقدم دليل على استخدام الكتابة في الإمارات منذ الألف الأول قبل الميلاد.
أقراص لجام الخيل الذهبية، التي يعود تاريخها لألفي عام، وتدل على ثراء سكان مليحة وعادتهم في دفن الخيول مع أصحابها.
نور الإمارات: مثير جدًا! وكيف يمكن للزوار الاستفادة من الموارد التعليمية في المتحف؟
علياء عبيد الخيال: يمكنهم زيارة المكتبة التي تحوي مراجع نادرة في علم الآثار والتاريخ، كما يُتيح المتحف خدماته للباحثين وطلاب الدراسات العليا، حيث يمكنهم الحصول على صور للمقتنيات أو الاستفسار عن معلومات تاريخية محددة. نقدم أيضًا عددًا من الإصدارات الهامة التي نشرها المتحف حول آثار الشارقة منذ عام 2008، وهي متاحة للشراء في متجر المتحف.
نور الإمارات: يبدو أن المتحف يمثل أيضًا مركزًا لدعم البحث العلمي، هل هناك محاضرات أو ورش خاصة للمهتمين؟
علياء عبيد الخيال: نعم، منذ عام 2009 نطلق سلسلة محاضرات "رحلة في رحاب التاريخ"، التي نستضيف فيها نخبة من أساتذة التاريخ والآثار في العالم العربي، حيث يقدمون تجاربهم ودراساتهم حول تاريخ الإمارات والجزيرة العربية. كما تُعلن هذه المحاضرات عبر منصات الهيئة، ونستقبل فيها جمهورًا من الباحثين والمهتمين بتاريخ المنطقة.
نور الإمارات: ختامًا، كيف يمكن للزوار دعم متحف الشارقة للآثار وحفظ التراث الثقافي؟
علياء عبيد الخيال: دعم الزوار يأتي من خلال نقل تجربتهم للآخرين، والمشاركة الفعالة في معارضنا وبرامجنا المختلفة. نحن نرحب دائمًا بمقترحات الزوار ونسعى للاستفادة منها لتحسين خدماتنا وتعزيز تجربتهم الثقافية في المتحف.
نور الإمارات: شكرًا جزيلاً لكِ، أستاذة علياء، على هذا الحوار الشيق والممتع.
علياء عبيد الخيال
أود أن أتقدم بخالص الشكر والتقدير إلى فريق "نور الإمارات" على استضافتي في هذه الفعالية المميزة "نقاش حر". كان لي شرف المشاركة في الحوار حول متحف الشارقة للآثار، وتقديم لمحة عن جهودنا في الحفاظ على التراث الثقافي الغني الذي تحظى به إمارة الشارقة ودولة الإمارات بشكل عام.
إن فتح المجال للنقاش حول موضوعات مهمة كهذه يعكس التزامكم بنشر الوعي الثقافي والتعليمي بين المجتمع. أتطلع إلى المزيد من الفعاليات المثمرة في المستقبل، وآمل أن نواصل العمل معًا لتعزيز فهمنا لتراثنا الأثري والتاريخي.
شكرًا مرة أخرى على هذه الفرصة الرائعة، وأتمنى لكم دوام التوفيق والنجاح.
علياء
عبيد الخيال
أمين
متحف الشارقة للآثار