![]() |
تعرف على الهروب من الواقع في علم النفس وعلاجه |
الهروب من الواقع قد يبدو أحيانًا كملاذ مؤقت من ضغوط الحياة، قراراتها الثقيلة، أو مشاعر لا نعرف كيف نواجهها. فالبعض يجد في النوم راحة، وآخرون يغرقون في الخيال أو العالم الافتراضي، محاولين التخفف من ثقل الواقع ولو للحظات. لكن متى يتحول هذا الهروب من وسيلة تهدئة إلى نمط مزمن يعيقنا عن التقدم؟ وكيف يمكننا التفريق بين الراحة المؤقتة والتجنب النفسي؟
في هذا المقال، سنكشف لك ما يقوله علم النفس عن أسباب الهروب من الواقع، وكيفية التعامل معه بوعي عبر مجموعة من الممارسات الفعّالة.
تعريف الهروب من الواقع في علم النفس
هو آلية نفسية يلجأ إليها البعض للهروب المؤقت من مشكلات الحياة أو مشاعر الضيق. وذلك عبر الانشغال بأشياء تُشعرهم بالراحة أو تنقلهم لعالم مختلف، مثل:
النوم المفرط.
مشاهدة المسلسلات بلا توقف.
التعلق بالألعاب الإلكترونية.
الغوص في الخيال.
هل الهروب من الواقع مرض نفسي؟
في علم النفس، لا يُصنف ممارسة الهروب من الواقع كمرض نفسي في حد ذاته. ولكنه قد يكون علامة على وجود اضطراب أعمق مثل:
الاكتئاب.
القلق.
اضطرابات التكيف.
فحين يصبح هذا الهروب وسيلة دائمة لتجنب المواجهة أو اتخاذ القرارات، ويتعارض مع الأداء اليومي أو العلاقات، هنا تبدأ الإشارة الحمراء. إذن، ليس كل هروب من الواقع مرضًا، لكن تجاهله أو التمادي فيه قد يؤدي إلى مشاكل نفسية تستحق التدخل.
أسباب عدم المواجهة والهروب من الواقع
الهروب من الواقع لا يحدث بلا سبب، بل غالبًا ما يكون نتيجة تراكمات نفسية أو تجارب مؤلمة لم يُتعامل معها بشكل صحي. إليك أبرز الأسباب التي تدفع البعض لعدم المواجهة وتفضيل الهروب:
الخوف من الفشل أو الرفض: كثيرون يتجنبون مواجهة مشكلاتهم خوفًا من عدم النجاح في حلها أو من ردود أفعال الآخرين. ما يجعل الهروب أكثر راحة نفسية، ولو مؤقتًا.
الضغط النفسي والتوتر المستمر: عندما تزداد الضغوط ويشعر الفرد بأنه عاجز عن التحكم في حياته، يلجأ إلى الهروب كوسيلة للهرب من الشعور بالعجز أو الانهيار.
تجارب سابقة مؤلمة: أشخاص عاشوا تجارب فشل أو صدمات في الماضي قد يطورون سلوكًا تجنبيًا. كما يفضلون البقاء في منطقة آمنة بعيدًا عن أي مواجهة قد تعيد لهم الألم.
انخفاض تقدير الذات: من يشعر بأنه غير كفء أو أقل من الآخرين، غالبًا ما يتهرب من المواقف التي قد تتطلب منه إثبات نفسه. وذلك خوفًا من الإحراج أو التقليل من شأنه.
الرغبة في الشعور بالسيطرة: أحيانًا يكون الواقع مليئًا بعدم اليقين، فيجد البعض في العالم الافتراضي أو الخيال مساحة يمكنهم فيها التحكم بكل شيء، على عكس الواقع.
غياب المهارات النفسية اللازمة للتعامل مع الضغوط: البعض لم يتعلم كيف يواجه الصعوبات. إما بسبب التربية أو غياب التوعية، فيلجأ للهروب كحل تلقائي.
هذه الأسباب لا تعني الضعف، لكنها إشارات لاحتياج الشخص إلى مساحة آمنة يفهم فيها نفسه ويتعلم آليات أفضل للمواجهة.
أشكال الهروب من الواقع
لا يأخذ الهرب من الواقع شكلاً واحدًا، بل يظهر في سلوكيات متنوعة قد تبدو بريئة في ظاهرها. ولكنها تصبح مشكلة حين تتحول إلى نمط دائم لتجنب المواجهة. إليك أبرز أشكال الهروب من الواقع:
الهروب من الواقع بالنوم: يلجأ الكثيرون لاستخدام النوم كوسيلة للهروب من التفكير أو الشعور. خاصة في حالات الاكتئاب أو الضغوط الكبيرة.
الإدمان على مواقع التواصل الاجتماعي: فالانشغال الدائم بالعالم الافتراضي لتجنب التفاعل مع الواقع الحقيقي ومشكلاته.
الهروب من الواقع إلى الخيال أو أحلام اليقظة: بناء عوالم خيالية بديلة يعيش فيها الشخص مشاعر أو سيناريوهات لا يجرؤ على خوضها في الواقع.
الإفراط في مشاهدة المسلسلات أو الأفلام: استهلاك المحتوى الترفيهي بشكل مبالغ فيه للهروب من الفراغ أو القلق أو المسؤوليات.
الهروب من الواقع إلى العالم الافتراضي: الدخول في عوالم الألعاب التي توفر شعورًا بالإنجاز والسيطرة. وذلك بعيدًا عن تعقيدات الحياة الحقيقية.
الإدمان، كالمخدرات أو الكحول: وهو من أخطر أشكال الهروب.حيث يستخدم الشخص المواد المؤثرة على العقل للهروب من الألم النفسي أو الضغط العاطفي.
العلاقات العاطفية الوهمية أو غير الواقعية: التعلق بأشخاص غير مناسبين أو بناء علاقات خيالية كوسيلة لتعويض نقص عاطفي أو تجنب الوحدة.
وكل هذه الأشكال تشترك في شيء واحد وهي الرغبة في تجنب الألم، أو مواجهة ما هو صعب. ولكنها في النهاية تؤجل الحل، ولا تمنع المواجهة، بل تجعلها أصعب مع الوقت.
كيف يمكن الهروب من الواقع بشكل صحي؟
في بعض الأحيان، نحتاج فعلًا إلى الابتعاد عن الواقع مؤقتًا، ليس هروبًا سلبيًا، بل استراحة ذهنية تعيد لنا التوازن والطاقة.
كما أن المهم هو أن يكون هذا الهروب واعيًا، مؤقتًا وغير مؤذٍ. وكذلك أن يساعدنا على العودة أقوى وأكثر استعدادًا للمواجهة. وإليك طرقًا صحية للهروب المؤقت من الواقع:
القراءة والانغماس في رواية ممتعة: القصص تأخذك لعوالم مختلفة، وتوفر مهربًا آمنًا ومفيدًا يساعد على تهدئة العقل وتنشيط الخيال.
ممارسة الرياضة أو المشي في الهواء الطلق: النشاط البدني يحرر العقل من التوتر. كما يمنحك شعورًا بالتحرر والراحة النفسية.
الاستماع إلى الموسيقى أو التأمل الصوتي: يمكن للموسيقى أن تكون وسيلة هادئة للهروب الإيجابي من ضوضاء اليوم، وتجديد الحالة المزاجية.
الكتابة أو التدوين الشخصي: التعبير عن المشاعر على الورق يساعدك على تفريغ ما بداخلك دون هروب دائم. كما أنه يمنحك رؤية أوضح لمشكلاتك.
السفر أو قضاء وقت في مكان جديد: تغيير البيئة ولو ليوم واحد ينعش النفس. كما يمنحك منظورًا مختلفًا دون أن يكون إنكارًا للواقع.
ممارسة هواية تحبها: مثل الرسم، الطهي، التصوير، أو الأشغال اليدوية. أي نشاط يجعلك حاضِرًا ومندمجًا في لحظتك.
المشاركة في أعمال تطوعية أو نشاطات جماعية: الابتعاد عن مشاكلك عبر مساعدة الآخرين يعطيك طاقة إيجابية. كما أنه يذكّرك بأنك جزء من شيء أوسع من همومك.
لذا، فالهرب من الواقع قد يكون مفيدًا عندما يُمارَس بوعي، كوسيلة لإعادة الشحن لا كطريقة دائمة للإنكار. فالأهم أن نعرف متى نعود، ومتى نحول هذا الهروب المؤقت إلى طاقة للمواجهة، لا وسيلة لتجميد الحياة.
ممارسات فعّالة في علاج الهروب من الواقع
علاج الهرب من الواقع لا يعني أن نتجاهل حاجتنا للراحة أو التخفف من الضغوط، بل يعني أن نتعلم كيف نواجه الحياة بتوازن ووعي، دون أن نهرب منها. إليك مجموعة من الممارسات الفعّالة التي تساعدك على التعامل مع هذا السلوك وتجاوزه تدريجيًا:
الوعي بالمشكلة وتقبل المشاعر: البداية دائمًا هي الاعتراف بأنك تميل للهروب. لا تَجلِد ذاتك، بل لاحظ متى تهرب ولماذا، وما الذي تحاول تجنبه. تقبل المشاعر هو أول خطوة نحو التغيير.
تحديد المحفزات: دوّن المواقف أو المشاعر التي تدفعك للهروب، مثل التوتر، الخوف من الفشل، أو الشعور بالوحدة. فمعرفة الأسباب تسهّل التعامل معها والتخلص من الهروب من الواقع.
تقسيم المشكلات إلى خطوات صغيرة: المواجهة لا تعني أن تحل كل شيء دفعة واحدة. ابدأ بخطوات بسيطة، مهما كانت صغيرة، مثل إنهاء مهمة مؤجلة أو التحدث مع شخص موثوق.
ممارسة التأمل واليقظة الذهنية: تمارين التنفس والتأمل تساعدك على العودة إلى اللحظة الحالية. كما أنها تقلل من الانفصال الذهني أو الغرق في الخيال.
وضع جدول يومي منتظم: روتين يومي بسيط ومنظم يساعدك على استعادة الشعور بالتحكم والواقعية حتى لو بدأته بنشاطين فقط يوميًا.
الانخراط في أنشطة حقيقية تمنح شعورًا بالإنجاز: مثل ممارسة الرياضة، التطوع، الرسم، أو تعلّم مهارة جديدة. كما أن هذه الأنشطة تربطك بالواقع وتُشعرك بالتحسن التدريجي.
الابتعاد التدريجي عن مصادر الهروب: قلل من الوقت الذي تقضيه على الهاتف، أو في مشاهدة المسلسلات، أو أحلام اليقظة. وكذلك لا تحرم نفسك تمامًا، بل نظّم استخدامها بوعي.
التحدث مع مختص نفسي: إذا كان الهروب يؤثر على حياتك اليومية أو يرافقه شعور دائم بالحزن أو القلق. فاستشارة معالج نفسي خطوة ذكية ومفيدة جدًا.
في الختام، علاج الهروب من الواقع لا يحدث في يوم وليلة، لكنه ممكن ومتاح لكل من يملك الرغبة في التغيير. القصد ليس أن تقتحم كل مخاوفك دفعة واحدة، بل أن تبدأ بالتدريب على البقاء بدل الهروب خطوة بخطوة، حتى يصبح واقعك مكانًا أكثر أمانًا وراحة لك. وتذكّر أن الشعور بالضيق أو التوتر ليس دليل ضعف، بل دليل إنسانيّتك. فكل ما تحتاجه هو الوعي بأن الهروب ليس مخرجًا دائمًا، وإنما محطة مؤقتة.